إبراهيم الزبيدي
من ذكريات 5 حزيران 1967
الساعة 08:15 مساءاً
إبراهيم الزبيدي
في أيام حرب حزيران/ يونيو 1967 كان المدير العام للإذاعة والتلفزيون ضابطا في الجيش هو العميد خالد رشيد الشيخلي.    

وبسبب قلة خبرته في المجال الإعلامي وفي أصول العمل الإذاعي، وخوفا من وقوعه في أخطاء سياسية غير مرغوب فيها تحرجه مع وزير الإعلام، وكان عسكريا أيضا، هو العميد دريد الدملوجي، ومع رئيس الجمهورية، وكان عسكريا كذلك، وهو الفريق عبدالرحمن محمد عارف، خاصة في ظروف الحرب التي تجعل مراقبة الأخبار والتصريحات مهمة شاقة جدا عليه، فقد تصرف بذكاء. وزع مهامه وصلاحياته على عدد من العاملين الذين يتوسم فيهم الخبرة والأمانة.  

كنت يومها رئيسا لمذيعي الإذاعة والتلفزيون، فكان نصيبي من الصلاحيات هو مراقبة وإجازة جميع ما يرد من برقيات وبيانات وأخبار، إضافة إلى عملي الأساسي في توزيع العمل على المذيعين وقد أناط بي أيضا مهمة إذاعة المواد المهمة، وخاصة بيانات القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء، والأوامر والتوجيهات والتصريحات التي تصدر عن القيادة.  

وكانت العادة، في الظروف الطارئة والمناسبات الوطنية، تقضي بأن نربط الإذاعة بالتلفزيون، معا، ونوحّد البث. وقد تعود العراقيون على توقع بيان هام أو خبر هام لمجرد أن يروا إطلالتي على الشاشة.  

ومرت أيام الحرب الأربعة ولياليها بكل أنواع القلق والحماس والسهر وقلة النوم. فقد كنا نواصل البث أربعا وعشرين ساعة، دون توقف. نتناوب النوم في غرفة المذيعين على الأرض المفروشة بسجادة قديمة مثقبة وغير نظيفة. سليم المعروف، عبداللطيف السعدون، حسين حافظ، طارق حسين، بهجت عبدالواحد، غازي فيصل، عبدالكريم الجبوري وغيرهم.  

وكان الرائد أحمد أبوالجبن مبعوثا إلينا من الاستخبارات العسكرية ومداوما معنا مثل أي واحد منا، يفحص الأخبار فقط من الناحية الأمنية والعسكرية. كان يجلس إلى جانبي في أستوديو البث ذات يوم. وبينما أنا منشغل بقراءة بيانات عسكرية، كان هو منشغلا أيضا، يقرأ ويجيز ويناولني لكي أذيع، لكنه وعلى غير العادة أمسك بورقة بيضاء وراح يكتب، ثم ناولني الورقة وأشار علي بإذاعة ما كتبه، فأذعت: “أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا بقصف مدينة ناثانيا في فلسطين المحتلة، وأوقعت خسائر فادحة بالعدو وعادت إلى قواعدها سالمة”.  

وبعد أن انتهيتُ من القراءة وأقفلت الميكرفون ورحنا نذيع موسيقى عسكرية وأناشيد وطنية سألته: إن هذا خبر جيد، من أين جئت به؟ قال: هو من عندي، دعما للمعنويات. وخرجنا من الأستوديو لنستريح قليلا.  

وبعد أقل من ربع ساعة أذاعت “صوت العرب” من القاهرة تقول: إليكم ما يلي: أذاع راديو بغداد ما يلي: أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا.. إلى آخر الخبر الذي صاغه أبوالجبن دعما للمعنويات.  

طبعا لو كنا نطابق ما نذيعه نحن من أخبار الانتصارات على خارطة فلسطين، لكنا حررناها كاملة، وأكثر من مرة، لكننا وبعد أيام من الخوف والقلق والعذاب وسهر الليالي أذعنا أن الرئيس جمال عبدالناصر قَبِل بوقف إطلاق النار، ثم اكتشفنا أننا فقدنا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس ومساحة من جنوب لبنان. أما نحن كعراقيين، فقد كانت لنا قطعات عسكرية وقوات جوية في مصر وسوريا والأردن. وعليه فإن قبول السوريين والمصريين والأردنيين بوقف إطلاق النار يعني أمرا ملزما للعراق.  

هاج دم الشباب في عروقي بعد أن سمعتُ الخبر. هل بعد كل الدمار والضياع والدماء نقبل بالهزيمة، وبصورة علنية وبشكل رسمي؟ فكتبت ما يشبه التعليق أرفض فيه قرار وقف إطلاق النار، باسم الجماهير العربية الصامدة في كل شبر من الوطن العربي، وأطالب بمواصلة القتال إلى ما لا نهاية، فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدى.  

كان شيئا من كلام أيام زمان الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع. دخلت أستوديو التلفزيون واتخذت مكاني في مواجهة الكاميرات وقلت للفنيين: يا الله يا شباب على الهواء. وانطلق صوتي عبر الإذاعة والتلفزيون معا.  

كانت وكالات الأنباء العربية والعالمية تترقب ما أذيعه وتتصيد مني ما عودتُها عليه من بيانات مهمة وتصريحات وقرارات صادرة من القيادة العليا للدولة. فراحت برقياتها تتلاحق “العراق يرفض وقف إطلاق النار”، “متحدث رسمي عراقي يعلن عدم القبول بما وافق عليه عبدالناصر”.  

بعدها بربع ساعة، وكنت في مكتبي في قسم المذيعين، طلبني العميد المدير العام هاتفيا، وبلهجة الآمر العسكري قال: تعال إلى مكتبي. دخلت. قال: انتظر، عندما يرن هذا الهاتف ارفع أنت سماعته، وكلم السيد الرئيس.  

وبالمناسبة لقد حالفني الحظ وسافرت مع الرئيس عدة مرات، أولها وأهمها وأجملها زيارتُه التاريخية لتركيا. وفي السفر تتآلف النفوس وتتقارب القلوب. وقد حظيت برضى خاص منه، رحمه الله، وعطف غير اعتيادي. ويمكنني القول إنه ميزني بأريحيته وكرمه بأكثر مما خص به من كان معنا من المرافقين. لم يطل انتظاري. رن الهاتف، رفعت السماعة: نعم تفضلوا الإذاعة والتلفزيون. وجاءني صوته. إنه الرئيس. قال: من؟ قلت: تفضل سيادة الرئيس. قال: من؟ قلت: أنا إبراهيم الزبيدي. قال: إبراهيم، خذ سيارة وتعال إلى القصر الجمهوري فورا. قلت: أمرك سيادة الرئيس. قال: اسألني لماذا؟ قلت: لماذا سيادة الرئيس؟ قال: تعال صير رئيس جمهورية بدالي.  

سكتّ لحظة، ثم قلت: سيادة الرئيس، أنا واثق من أن كلامي خارج من قلبك. فسكت، وسكتُّ، وساد صمت، ثم قال: وضعتَنا في موقف حرج وكبير مع الرئيس عبدالناصر. ثم سكت، وسكتُّ أيضا، وساد صمت جديد، ثم سمعته بصوته الذي ألفت فيه الود والحنان: زين يابا زين، وأقفل سماعة التلفون. سألني المدير العام: ماذا قال السيد الرئيس؟ قلت: قال: زين يابا زين. عاد وسأل: فقط؟ قلت: فقط لا غير.  

* نقلا عن "العرب"
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص