في زمنٍ باتت فيه الحكومات تُتقن فنّ التصوير أكثر من فنّ الإنجاز، وتُغرق مواطنيها بالوعود على الشاشات قبل أن تُقدّم لهم ما يُلمس على الأرض؛ تميّزت حكومة الأستاذ سالم صالح بن بريك بنهج مختلف، يقوم على الإنجاز أولًا، وعلى الفعل قبل القول، والتطبيق قبل الترويج.
فهي لا تستند إلى الضجيج الإعلامي، بل تبني قراراتها على تغذية راجعة نابعة من احتياجات المواطنين الحقيقية، لا من تصريحات من اعتادوا تصدّر الشاشات وهم بعيدون عن نبض الشارع.
منذ تكليف رئيس الوزراء بمهمته، برزت مؤشرات على تحوّل في نمط الأداء الحكومي، تجاوزت البيروقراطية التقليدية، واتجهت نحو مقاربة مباشرة لاحتياجات المواطنين. من أبرز هذه المؤشرات: تحسّن ملموس في سعر صرف العملة الوطنية، بلغ نحو ٢٥٠ ريالًا أمام الريال السعودي، وما يقارب 710 ريالًا أمام الدولار خلال 48 ساعة فقط، وفقًا لمحلات الصرافة. إلى جانب ذلك، سُجّلت تحركات فعلية في ملفات حيوية، شملت تحسين البنية التحتية، وتعزيز برامج التحصين الصحي، والتحضير الجاد لعقد المؤتمر الدولي للأمن الغذائي، برعاية مجلس التعاون الخليجي.
هذا الأسلوب العملي لا يُلغي الحاجة إلى الشفافية أو التواصل المؤسسي، لكنه يعكس نضجًا إداريًا يقدّم النتائج على الشعارات، ويُعيد الثقة تدريجيًا بالعلاقة بين المواطن والدولة.
ومع أهمية ما تحقق، ينبغي التأكيد أن هذا التحسّن في سعر الصرف يبقى مجرد خطوة أولى على طريق طويل، إذ لا يمكن الحديث عن تعافٍ اقتصادي حقيقي دون إجراءات استراتيجية تُعزز الاستقرار، أبرزها:
• استئناف تصدير النفط والغاز.
• رفع سعر الفائدة لكبح المضاربات.
• تحفيز الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات.
• تحسين تحصيل الإيرادات العامة.
• تشجيع تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية.
• ضبط الإنفاق العام ومراجعة أولوياته.
وفي هذا السياق، ظهر تناغم لافت بين رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي، الأستاذ أحمد غالب المعبقي، حيث شكّلا معًا ثنائيًا فعّالًا أعاد الحيوية للمؤسسات بعد سنوات من الجمود. قراراتهم لم تكن مجرد إجراءات عابرة، بل بدت كجزء من رؤية واضحة لضبط السوق واستعادة السيطرة على مفاصل الاقتصاد.
لم يكن التحسّن اللافت في سعر صرف العملة الوطنية—بنسبة تقارب 33% أمام الريال السعودي، ونحو 24% أمام الدولار الأمريكي—محض صدفة، بل جاء ثمرة حزمة من الإجراءات المنسّقة والمدروسة، نفذتها الحكومة بتوقيت محسوب، شملت: تفعيل الرقابة على قطاع الصرافة، وضبط المضاربات، وتحسين كفاءة الدورة النقدية، وتفعيل أدوات السياسة النقدية، واستكمال عملية نقل المركز المالي والمصرفي إلى العاصمة المؤقتة عدن، وتشديد الرقابة على التداولات، إلى جانب إعلان الحكومة عزمها مُساءلة الجهات التي لم تلتزم بتوريد الإيرادات العامة. كل ذلك تزامن مع تحركات دبلوماسية ومالية تهدف إلى تحسين الإيرادات، واستعادة الثقة المحلية والدولية بالاقتصاد الوطني.
وعلى صعيد موازٍ، أولى رئيس الوزراء ملف الأمن الغذائي اهتمامًا خاصًا، باعتباره أحد أبرز التحديات الوطنية. وقد وجّه الجهات المختصة للتحضير الجاد لمؤتمر الأمن الغذائي المقرر في أكتوبر المقبل، والعمل على إعداد رؤية وطنية شاملة تتضمن حلولًا مستدامة، واستثمارات مجدية في القطاعين الزراعي والسمكي، مع إشراك القطاع الخاص بفاعلية.
وبهذه المناسبة، أجد من المهم التذكير بأنني كنت قد أعددت استراتيجية وطنية شاملة للأمن الغذائي قبل أكثر من عامين، وقد رفعتها حينها إلى رئاسة الجمهورية. واليوم، ومع اقتراب انعقاد المؤتمر الدولي للأمن الغذائي، تبدو الحاجة ماسة لإعادة طرح هذه الاستراتيجية—سواء لتبنّيها رسميًا ضمن مخرجات الدولة، أو لتقديمها كمساهمة علمية تُغني النقاشات في المؤتمر. وتضم الاستراتيجية محاور عملية واقعية، قابلة للتنفيذ، تأخذ بعين الاعتبار التحديات البنيوية والظروف الاقتصادية الراهنة، وتضع أولويات واضحة للانتقال من مرحلة الإغاثة الطارئة إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي والتنمية الزراعية المستدامة.
وتتضمن هذه الاستراتيجية عددًا من المحاور العملية، منها:
- دعم الزراعة المجتمعية.
- إنتاج البذور المحسّنة محليًا.
- تطوير تقنيات الري الحديثة.
- الاستثمار في الثروة الحيوانية والسمكية.
- تحسين سلاسل الإمداد، والتخزين الاستراتيجي.
- حماية الفئات الأشد هشاشة من خلال برامج دعم نقدي وغذائي.
- تشكيل مجلس وطني للأمن الغذائي بإدارة مشتركة من الحكومة والرئاسة.
- اعتماد خطة وطنية للفترة 2025–2035 تُراجع دوريًا بمشاركة كافة الشركاء.
إن ما تقوم به الحكومة اليوم لا يبدو حركة إعلامية ولا حملة علاقات عامة، بل محاولة جادة لتصحيح المسار واستعادة الثقة. وهذا يستدعي من كل القوى الوطنية — السياسية، والخبراء، والمجتمع المدني — أن تدعم هذا المسار، لا أن تضع العراقيل أمامه.
صحيحٌ أن الحكم النهائي على الأداء لا يُبنى على المئة يوم الأولى، لكنها كافية لتلمّس الاتجاه العام. والمواطن بدأ يشعر — ولو جزئيًا — بأن هناك إدارة مختلفة، تتحدث أقل، وتنجز أكثر.
إنها حكومة اختارت لنفسها طريق التحدي، أن تُقيَّم بما تنجز لا بما تُعلن. وإن حافظت على هذا النهج، ونجحت في تجاوز ضغوط شبكات الفساد والمصالح، وواجهت جشع المضاربين ومخالفات الصيرفة بالحزم المطلوب، فإننا نكون فعلاً على أعتاب مرحلة استعادة الدولة وهيبتها، خطوةً بعد خطوة.
فالدول لا تُبنى بالشعارات، بل بإجراءات منضبطة، وخطط مدروسة، وإرادة جادة.
وما تحقق قد لا يكون كافيًا، لكنه فتح نافذة أمل؛ مسؤوليتنا اليوم أن نوسّعها، لا أن نسمح بإغلاقها من جديد.