أروى عثمان
صنعاء التي لا أعرفها: أين اختفت يا الي ظلالش برود !
الساعة 06:37 مساءاً
أروى عثمان

“في الحيد يا الي ظلالش برود
وقت الحمى رفرفي بالظل فوق الجنود
وإن جاء المطر والزوايب والبروق والرعود
فكنينهم وكوني فوقهم حانية، ويا حنايا
الصباح، من لفح البرد برد الرياح ومن صقيع الصباح كوني لهم حامية”
شاعر الخضرة والحياة: مطهر الإرياني، اسمح لي بتوجيه هذا النص إلى اليمنيين كافة.

هل حقا يصل الإنسان في حياته إلى الحد الذي لا يعرف فيه المدينة التي عاش فيها أجمل سنوات عمره، المدينة التي عشقها، وأصبح يتنفس من خلالها، وإن غاب عنها أيام يحس بالوحشة، ويفتت الصقيع روحه، وحين يعود الى مسكنه يطفح الدمع من عينيه- يـ”فتح الباب ويبوس الحيطان، ويركع تحت أحلى سماء، ويصلي” كما تغني فيروز.

منذ أن وطأت قدماي صنعاء في منتصف الثمانينيات لدراسة الفلسفة بكلية الآداب، جامعة صنعاء كان عمري 19 عاما، كنت كمن وصل الى باريس. أحببت صنعاء كما لم أحب مدينة غيرها، حتى تعز مسقط رأسي كانت صنعاء تفوز عليها بأضعاف مضاعفة. ولم اسمع قط الفاظاً عنصرية، كما يحكون: برغلية، لغلغية، على الإطلاق.

كل شيء في صنعاء أحبه، ناسها ترابها غبارها، عنبها، تينها وشوكها و”صنعاء حوت كل فن”، وما مثل صنعاء اليمن.

كيف لا أحبها، حيث درست واشتغلت وتزوجت، وأنجبت زهراتي الثلاث، وكتبت وعملت “متحف التراث الشعبي- التعدد والاختلاف”، كيف لا، وأنت تستفتح صباحاتك بوجوه الأنس التي لا تمحى؛ وجه عمي ناجي جزيلان وعائلته الطيبة، الملاك زعفران وأهلها، وعلى الوجه الصبوح لعم شرف، وقبل أن افتح باب المتحف، أصبّح على صديقاتي في القاع، بائعة اللحوح والملوج، والقلِة، والشذاب، وصاحبي بائع الكدم، الذي يخبئ لي الكُدم الطريات والبطاط والبسباس، والبرعي، والمكتبات والأكشاك،.. الخ، كيف لا، وأنا أفتتح صباحاتي على الوجه البشوش لأستاذي الكبير عبد العزيز المقالح، وهدوئه، وعلى أصدقائي من الأدباء والباحثين.. الخ. رأيت العالم من خلال قمريات صنعاء، وناس “يا الي ظلالش برود”، أكتب وجسمي يقشعر، وأنا أتذكرهم، وصورهم مبثوثة على شاشة الكمبيوتر. لقد أصبحت الصورة شجرة “التالقة”.

كنت أحمل كاميرتي فجراً، أصور نوافذها وجدرانها، الياجور ونقوش النورة، ناسها خصوصاً، تلك الوجوه والأيدي المعروقة، يـ” فتاح يا عليم، يا رزاق ياكريم” في القاع وباب اليمن.. أُعرّج على قراها، سوق الملح، ملح حكايتي والدفتر الذي لا تكمتل أوراقه، إلا بفتح غالق الكاميرا، وجه مبتسم، يلوح لي، يناديني آخر: لحظة أصلح المَشدّة، ويتأهب للصورة، ولا ينسى أن يضرب تعظيم سلام، والأطفال وهم يهرولون يمسكون بثيابي: زيديني صورة وأنا أتسلق الشجرة، وأنا أجري، وأنا أشوت الكرة، وأنا أضحك. طالبة المدرسة تحدِّث صديقتها “طعميني حقك السكريم”، “صوريني آكل سكريم”. صور النساء والأشجار، والنوافذ، وما تبقى من مجاول النعناع والريحان والورد البلدي.

كانت صباحات الساعة الخامسة فجراً، أجمل وأنعش صباحات يومي، أتأبط كاميرتي، قبل شروق الشمس، ارقب أشعتها وهي تخرج من بطن السحب، وأسوار المدينة القديمة، وفروع الأشجار السامقة في القاع والروضة، والزراعة، والحصبة، شارع تعز، وبلاد خولان، وبني مطر، .. الخ، ارتشف القهوة والشاي مع عسكر النقاط أو الفلاحين/ت، أصوِّر البيوت وأشعة الشمس التي تستطع على القمريات، فتشكل لوحة داخل لوحات، يا إلهي، إنها لدن روحي.. تظللني “التالقة” وتهفهف بالبرود، وكيف أصبحت اليوم صوراً.

(2)
صنعاء، حتى وعند انحسار” يا الي ظلالش برود” بتوالي تجفيف جذرها بدق المسامير الصدئة في وتدها وسيقانها مع بروز حوادث العنف التي تلاحق الناس، وخصوصاً النساء، كالمتمردات أمثالي،” غطي شعرش، ارجموا الشيطان، ويا كافرة، ويا داشرة، ووو..الخ”، كان كل ذلك يحتمل، أمام ما تبقى من عرش دفء “يا الي ظلالش برود”، حتى مع أحداث 2011، ما زالت صنعاء برغم الإعتوار تبتلع الجمر، لتفرش الظلال والبرود، حتى على أشواك “السنف”.

(3)
2014
أحداث المطار، وعمران وصُباحة، والجرعة، وجيوش الله وآل البيت الذين افترشوا صنعاء، أو بالأحرى افترسوا ما تبقى من تالقة” يا الي ظلالش برود”، في غبش الفجر21 سبتمبر2014، ابتلعوا التالقة وملايين من كانت تظللهم، في لجة جرعة عرقية طائفية، وبندق، وصرخة ومصحف واستغفار:
من أنتم”: أنصار الله
من أعدائكم؟: أعداء الإسلام
“هيهات منا الذلة”، ثم فزعة الصرخة.

لم يكن الموت لأمريكا وإسرائيل، وأم الصبيان، كان الموت للتالقة، ولكل ـ من يحتمي ويكنن بـ” يا الي ظلالش برود” في صنعاء وفي كل المدن اليمنية، وحتى الريف الذي ابتلعته وحشة من أنتم؟! العرق الآري، مقابل عرق التراب.

انكسر داخلنا قبل خارجنا، لم اعد أرى القمرية مثلما كنت أراها، وقهوة الصباح وقهوة القشر في العصارى، والشاي بالنعناع كان ينزل أمواس شاعطة، خصوصاً مع هدير أصوات الزوامل المرعبة لـ “من أنتم؟” التي فتتنا وعبثت بصباحاتنا ومساءاتنا وتفاصيل حياتنا، لا أبالغ إن قلت إنها دمرتنا بقسوة من الداخل، كيف ستكون حياتك وأنت ترى ورق وأغصان التالقة تتوجع، تجف، تتكسر، تلفظ أنفاسها؟
والموخز الأعنف، لمن كنا وإياهم نتظلل بالبرود، للأسف كانوا يخزقون بسبابتهم أرواحنا، قبل أعيننا، بـ”من أنتم”؟، وهم أعز أصدقائك وممن أكلنا معهم “عيش وملح” تحت التالقة لسنيين طويلة، منذ أكثر من 35، عاماً من أيام الجامعة، بل والمدرسة، لقد بصقوا بصرخة “من أنتم”؟ في خبز الطاوة، ومدرة السلتة والفاصوليا، والكُدم، والشاي، قبل وجوهنا، واحتطبوا التالقة بكلها، وأوقدوا وأرمدوا! “كيف سخيتم”!

وكل ما ذكّرناهم، بحنايا” يا الي ظلالش برود”، يلوحون لنا بالوثيقة الفكرية، وفتوحات صنعاء، لسيد السماء والأرض، النبي الضرورة” عبد الملك الحوثي يحرق المراحل، ويا ثوار يا أحرار ثورة.. ثورة لا حوار”، وزوامل الموت والفناء:” غادي الله يغاديه”، و” القتل لنا عاده”، ” أطلق لجام الحرب حان الاقتلاع، اطلق لجام السابعة والثامنة والتاسعة ما مثلنا بين القبائل رمى”.

“حفنة الأطهار-الأسياد”، ”قرناء القرآن”، مقابل 30 مليون عدو للإسلام، دانس، ودانق، ومنافق، وأمريكي، واسرائيلي، وخائن ومرتزق، وعدوان.. والخ وجرى الابتلاع بصكوك الرحمن جرى ابتلاع البلاد من الإبرة حتى البنك، والقصر، ومخزون البر والبحر والسماء لمليون عام، وعلى حد قول رئيسهم “عاد حنا إلا طعمنا”!

(4)
وأنا أكتب هذه المقالة في الغربة، “تكشني الزؤبة” بحسب التعبير الشعبي العميق، تتوارد لديّ مئات الصور، وأنت ترى اصدقائك وجيرانك، وقد تلقبوا، بـ”المرأة القرآنية”، “النطفة- والنونو القرآني”، و”المجاهد القرآني”، أن ترى أطفال الكهف في الجولات يفتشون الصغير والكبير، أن ترى مكتبة شارعك بلا صحيفة، ولا كتاب، مكتبة “أبو ذر الغفاري فقيرة”، لتغلق بعد ذلك، ماذا سيقول ساراماجو، وماركيز، وكونديرا، وآذر نفيسي ووو؟ كيف أستوعب أطفال المدرسة الذين صورتهم، أيام تالقة ” يا الي ظلالش برود”، وهم ينعتوني بـ “يا اسرائيلية”، ” كافرة”، توخشت/نا، بالبصاق الإلهي الأخضر السام، الفجيعة المضاعفة لتلك العيون المعلقة لصور شهداء القائد ابن الله، إن لم يكن هو الله: سيدي ومولاي عبد الملك الحوثي”!!

(5)
لم اعتب بعدها الشارع، وأصيبت كاميرتي بالسكتة، خصوصاً مع التفتيش المهوس، والعيون المفتوحة على كل ” شحج”، وممنوع التصوير، وتهم التجسس للعدوان”، نعم، كيف انزل الشارع وأصور، والمليشيات مذرورة من حوش العمائر التي نسكنها، حتى ابعد مسافة، في كل خطوة وجدار ولا أنسى ذلك الحدث يوم أُخذت كاميرتي دون ان اطلق صورة، أخذنها- الزينبيات ومسحن الذاكرة بما فيه عيد ميلاد ابن جيراننا الذي ظل يطالبني: أين صورتي يا خالة حتى رحيلنا من صنعاء.

أأقول له اكلها “السافع” الإلهي الأخضر! التجمتُ، فلقد ظل رهاب الكاميرا عندي لسنوات حتى وانا في مصر وتونس، حتى نهاية 2020، حين بدأت أتلمسها كطفل أصابه العمى، ثم استضاء ولكنه كان بعيدا عن صنعائه ويمنه!

(6)
بعد اختفاء “الظلال والبرود” سالت بقوة شعارات معفرة بالكراهية، والعنصرية، والهمجية الأولى، وأصبحنا نرى “العكفة الإلهية” يعمرون الأوالي، ليستحضروا معهم أولئك الذين كنا نسمع عنهم في حكايات آبائنا وأجدادنا، أو نراهم بالأبيض والأسود.

ظل البيت هو عالمي الذي لم أبرحه لعامين وثلاثة أشهر، خلا مرات نادرة خرجت فيها مشرشفة، وتنويعاَ على ذلك، كنت احدث بعض الصديقات بسخرية: ”اللي ما أدبوش، وما شرشفوش أهله، يؤدبه الحوثي”، وتذكرت أمي، حين تشرشفتُ إجبارياً أنا وابنتي مريم ذات الإثنى عشر عاماً عند خروجنا من صنعاء، “يوم الهربة” وهي تترجاني أن البس الشرشف لأن بنات الجيران مسترّات ومشرشفات”، وأنا أرفض، خصوصاً أيام كتب الماركسية، ونوال السعداوي. 

من الخرجات النادرة الأليمة، كانت هناك زيارة لمكان عملي “مركز الدراسات والبحوث”، حيث صعقتني برودته وصمته، بدا غريباً، سوره الحجري وبوابته الزجاجية، المكتبة، البوابة الأخرى، كلها مشوهة ببصاق شعارات الصرخة، وصور القرآنات الناطقة السيلانية الخضراء لعبدالملك الحوثي، وحسين، تجر أنفاسك المصعوقة فتدخله لتصطدم، بقادة المليشيات الذين احتلوا قاعة الفعاليات الثقافية والفكرية بما فيها كرسي أستاذنا العزيز والغالي عبدالعزيز المقالح.. بعدها لم أعتب المركز، وحتى انقطعت عن أداء واجبات العزاء، إلى أن غادرت صنعاء في 23 مارس 2017.

لم تنته الحكاية” عاد إلا كتبنا”…

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر